فصل: ذكر خلع المطيع وخلافة الطائع لله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر حيلة لبختيار عادت عليه

كان بختيار قد واطأ والدته وإخوته أنه إذا كتب إليهم بالقبض على الأتراك يظهرون أن بختيار قد مات ويجلسون للعزاء فإذا حضر سبكتكين عندهم قبضوا عليه فلما قبض بختيار على الأتراك كتب إليهم على أجنحة الطيور يعرفهم ذلك فلما وقفوا على الكتب وقع الصراخ في داره وأشاعوا موته ظنًا منهم أن سبكتكين يحضر عندهم ساعة يبلغه الخبر فلما سمع الصراخ أرسل يسأل عن الخبر فأعلموه فأرسل يسأل عن الذي أخبرهم وكيف أتاهم الخبر فلم يجد نقلًا يثق القلب به فارتاب بذلك‏.‏

ثم وصله رسله الأتراك بما جرى فعلم أن ذلك كان مكيدة عليه ودعاه الأتراك إلى أن يتأمر عليهم فتوقف وأرسل إلى أبي إسحاق بن معز الدولة يعلمه أن الحال قد انفسد بينه وبين أخيه فلا يرجى صلاحه وأنه لا يرى العدول عن طاعة مواليه وإن أساءوا إليه ويدعوه إلى أن يعقد الأمر له‏.‏

فعرض قوله على والدته فمنعته‏.‏

فلما رأى سبكتكين ذلك ركب في الأتراك وحصر دار بختيار يومين ثم أحرقها ودخلها وأخذ أبا إسحاق وأبا طاهر ابني معز الدولة ووالدتهما ومن كان معهما فسألوه أن يمكنهم من الانحدار إلى واسط ففعل وانحدروا وانحدر معهم المطيع لله في الماء فأنفذ سبكتكين فأعاد ورده إلى داره وذلك تاسع ذي القعدة واستولى على ما كان لبختيار جميعه ببغداد ونزل الأتراك في دور الديلم وتتبعوا أموالهم وأخذوها وثارت العامة من أهل السنة ينصرون سبكتكين لأنه كان يتسنن فخلع عليهم وجعل لهم العرفاء والقواد فثاروا بالشيعة وحاربوهم وسفكت بينهم الدماء وأحرقت الكرخ حريقًا ثانيًا وظهرت السنة عليهم‏.‏

  ذكر خلع المطيع وخلافة الطائع لله

و في هذه السنة منتصف ذي القعدة خلع المطيع لله وكان به مرض الفالج وقد ثقل لسانه وتذرت الحركة عليه وهو يستر ذلك فانكشف حاله لسبكتكين هذه الدفعة فدعاه إلى أن يخلع نفسه من الخلافة ويسلمها إلى ولده الطائع لله واسمه أبو الفضل عبد الكريم ففعل ذلك وأشهد على نفسه بالخلع ثالث عشر ذي القعدة‏.‏

وكانت مدة خلافته تسعًا وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام وبويع للطائع لله بالخلافة واستقر أمره‏.‏

  ذكر الحرب بين المعز لدين الله العلوي والقرامطة

في هذه السنة سار القرامطة ومقدمهم الحسن بن أحمد من الأحساء إلى ديار مصر فحصرها ولما سمع المعز لدين الله صاحب مصر بأنه يريد قصد مصر كتب إليه كتابًا يذكر فيه فضل نفسه وأهل بيته وأن الدعوة واحدة وأن القرامطة إنما كانت دعوتهم إليه وإلى آبائه من قبله ووعظه وبالغ وتهدده وسير الكتاب إليه‏.‏

فكتب جوابه‏:‏ وصل كتابك الذي قل تحصيله وكثر تفضيله ونحن سائرون إليك على أثره والسلام‏.‏

وسار حتى وصل إلى مصر فنزل على عين شمس بعسكره وأنشب القتال وبث السرايا في البلاد ينهبونها فكثرت جموعه وأتاه من العرب خلق كثير وكان ممن أتاه حسان بن الجراح الطائي أمير العرب بالشام ومعه جمع عظيم‏.‏

فلما رأى المعز كثرة جموعه استعظم ذلك وأهمه وتحير في أمره ولم يقدم على إخراج عسكره لقتاله فاستشار أهل الرأي من نصائحه فقالوا‏:‏ ليس حيلة غير السعي في تفريق كلمتهم وإلقاء الخلف بينهم ولا يتم ذلك إلا بابن الجراح فراسله المعز واستماله وبذل له مائة ألف دينار إن هو خالف على القرمطي فأجابه ابن الجراح إلى ما طلب منه فاستحلفوه فحلف أنه إذا وصل إليه المال المقرر انهزم بالناس‏.‏

فاحضروا المال فلما رأوه استكثروه فضربوا أكثرها دنانير من صفر وألبسوها الذهب وجعلوها في أسافل الأكياس وجعلوا الذهب الخالص على رؤوسها وحمل إليه فأرسل إلى المعز أن يخرج في عسكره يوم كذا ويقاتلوه وهو في الجهة الفلانية فإنه ينهزم المعز ذلك فانهزم وتبعه العرب كافة فلما رآه الحسن القرمطي منهزمًا تحير في أمره وثبت وقاتل بعسكره إلا أن عسكر المعز طمعوا فيه وتابعوا الحملات عليه من كل جانب فأرهقوه فولى منهزمًا واتبعوا أثره وظفروا بمعسكره فأخذوا من فيه أسرى وكانوا نحو ألف وخمسمائة أسير فضربت أعناقهم ونهب ما في المعسكر‏.‏

وجرد المعز القائد أبا محمد بن إبراهيم بن جعفر في عشرة آلاف رجل وأمره باتباع القرامطة والإيقاع بهم فاتبعهم وتثاقل في سيره خوفًا أن ترجع القرامطة إليه وأما هم فإنهم ساروا حتى نزلوا أذرعات وساروا منها إلى بلدهم الأحساء ويظهرون أنهم يعودون‏.‏

لما بلغ المعز انهزام القرمطي من الشام وعوده إلى بلاده أرسل القائد ظالم بن موهوب العقيلي واليًا على دمشق فدخلها وعظم حاله وكثرت جموعه وأمواله وعدته لأن أبا المنجى وابنه صاحبي القرمطي كانا بدمشق ومعهما جماعة من القرامطة فأخذهم ظالم وحبسهم وأخذ أموالهم وجميع ما يملكونه‏.‏

ثم إن القائد أبا محمود الذي سيره المعز يتبع القرامطة وصل إلى دمشق بعد وصول ظالم إليها بأيام قليلة فخرج ظالم متلقيًا له مسرورًا بقدومه لأنه كان مستشعرًا من عود القرمطي إليه فطلب منه أن ينزل بعسكره بظاهر دمشق ففعل وسلم إليه أبا المنجى وابنه ورجلًا آخر يعرف بالنابلسي وكان هرب من الرملة وتقرب إلى القرمطي فأسر بدمشق أيضًا فحملهم أبو محمد إلى مصر فسجن أبو المنجى وابنه وقيل للنابلسي‏:‏ أنت الذي قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعة في المغاربة وواحدًا في الروم فاعترف فسلخ جلده وحشي تبنًا وصلب‏.‏

ولما نزل أبو محمود بظاهر دمشق امتدت أيدي أصحابه بالعيث والفساد وقطع الطريق فاضطرب الناس وخافوا ثم إن صاحب الشرطة أخذ إنسانًا من أهل البلد فقتله فثار به الغوغاء والأحداث وقتلوا أصحابه وأقام ظالم بين الرعية يداريهم وانتزح أهل القرى منها لشدة نهب المغاربة أموالهم وظلمهم لهم ودخلوا البلد فلما كان نصف شوال من السنة وقعت فتنة

عظيمة بين عسكر أبي محمود وبين العامة وجرى بين الطائفتين قتال شديد وظالم مع العامة يظهر أنه يريد الإصلاح ولم يكاشف أبا محمود وانفصلوا‏.‏

ثم إن أصحاب أبي محمود أخذوا من الغوطة قفلًا من حوران وقتلوا منه ثلاثة نفر فأخذهم أهلوهم وألقوهم في الجامع فأغلقت الأسواق وخاف الناس وأرادوا القتال فسكنهم عقلاؤهم‏.‏

ثم إن المغاربة أرادوا نهب قينية واللؤلؤة فوقع الصائح في أهل البلد فنفروا وقاتلوا المغاربة في السابع عشر ذي القعدة وركب أبو محمود في جموعه وزحف الناس بعضهم إلى بعض فقوي المغاربة وانهزم العامة إلى سور البلد فصبروا عنده وخرج إليهم من تخلف عنهم وكثر النشاب على المغاربة فأثخن فيهم فعادوا فتبعهم العامة فاضطروهم إلى العود فعادوا وحملوا على العامة فانهزموا وتبعوهم إلى البلد وخرج ظالم من دار الإمارة‏.‏

وألقى المغاربة النار في البلد من ناحية باب الفراديس وأحرقوا تلك الناحية فأخذت النار إلى القبلة فأحرقت من البلد كثيرًا وهلك فيه جماعة من الناس وما لا يحد من الأثاث والرحال والأموال وبات الناس على أقبح صورة ثم إنهم اصطلحوا هم وأبو محمود ثم انتقضوا ولم يزالوا كذلك إلى ربيع الآخر سنة أربع وستين وثلاثمائة‏.‏

ثم عادت الفتنة في ربيع الآخر سنة أربع وستين وثلاثمائة وترددوا في الصلح فاستقر الأمر بين القائد أبي محمود والدمشقيين على إخراج ظالم من البلد وأن يليه جيش بن الصمصامة وهو ابن أخت أبي محمود واتفقوا على ذلك وخرج ظالم من البلد ووليه جيش بن الصمصامة وسكنت الفتنة واطمأن الناس‏.‏

ثم إن المغاربة بعد أيام عاثوا وأفسدوا باب الفراديس فثار الناس عليهم وقاتلوهم وقتلوا من لحقوه وصاروا إلى القصر الذي فيه جيش فهرب منه هو ومن معه من الجند المغاربة ولحق بالعسكر فلما كان من الغد وهو أول جمادى الأولى من السنة زحف جيش في العسكر إلى البلد وقاتله أهله فظفر بهم وهزمهم وأحرق من البلد ما كان سلم ودام القتال بينهم أيامًا كثيرة فاضطرب الناس وخافوا وخربت المنازل وانقطعت المواد وانسدت المسالك وبطل البيع والشراء وقطع الماء عن البلد فبطلت القنوات والحمامات ومات كثير من الفقراء على الطرقات من الجوع والبرد فأتاهم الفرج بعزل أبي محمود‏.‏

  ذكر ولاية ريان الخادم دمشق

لما كان بدمشق ما ذكرناه من القتال والتحريق والتخريب وصل الخبر بذلك إلى المعز صاحب

مصر فأنكر ذلك واستبشعه واستعظمه فأرسل إلى القائد ريان الخادم والي طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لمشاهدة حالها وكشف أمور أهلها وتعريفه حقيقة الأمر وأن يصرف القائد أبا محمود عنها فامتثل ريان ذلك سار إلى دمشق وكشف الأمر فيها وكتب به إلى المعز وتقدم إلى القائد أبي محمود بالانصراف عنها فسار في جماعة قليلة من العسكر إلى الرملة وبقي الأكثر منهم مع ريان‏.‏

وبقي الأمر كذلك إلى أن ولي الفتكين على ما نذكره‏.‏

  ذكر حال بختيار بعد قبض الأتراك

لما فعل بختيار ما ذكرناه من قبض الأتراك ظفر بذخيرة لآزادرويه بجنديسابور فأخذها ثم رأى ما فعله الأتراك مع سبكتكين وأن بعضهم بسواد الأهواز قد عصوا عليه واضطر عليه غلمانه الذين في داره وأتاه مشايخ الأتراك من البصرة فعاتبوه على ما فعل بهم وقال له عقلاء الديلم‏:‏ لا بد لنا في الحرب من الأتراك يدفعون عنا بالنشاب فاضطرب رأي بختيار ثم أطلق آزادرويه وجعله صاحب الجيش موضع سبكتكين وظن أن الأتراك يأنسون به وأطلق المعتقلين وسار إلى والدته وإخوته بواسط وكتب إلى عمه ركن الدولة وإلى ابن عمه عضد الدولة يسألهما أن ينجداه ويكشفا ما نزل به وكتب إلى أبي تغلب بن حمدان يطلب منه أن يساعده بنفسه وأنه إذا فعل ذلك أسقط عنه المال الذي عليه وأرسل إلى عمران بن شاهين بالبطيحة خلعًا وأسقط عنه باقي المال الذي اصطلحا عليه وخطب إليه إحدى بناته وطلب منه أن يسير إليه عسكرًا‏.‏

فأما ركن الدولة عمه فإنه جهز عسكرًا مع وزيره أبي الفتح بن العميد وكتب إلى ابنه عضد الدولة يأمره بالمسير إلى ابن عمه والاجتماع مع ابن العميد‏.‏

وأما عضد الدولة فإنه وعد بالمسير وانتظر ببختيار الدوائر طمعًا في ملك العراق‏.‏

وأما عمران بن شاهين فإنه قال‏:‏ أما إسقاط المال فنحن نعلم أنه لا أصل له وقد قبلته وأما الوصلة فإنني لا أتزوج أحدًا إلا أن يكون الذكر من عندي وقد خطب إلي العلويون وهم موالينا فما أجبتهم إلى ذلك وأما الخلع والفرس فإنني لست ممن يلبس ملبوسكم وقد قبلها ابني وأما إنفاذ عسكر فإن رجالي لا يسكنون إليكم لكثرة ما قتلوا منكم‏.‏

ثم ذكر ما عامله به هو وأبوه مرة بعد أخرى وقال‏:‏ ومع هذا فلا بد أن يحتاج إلى أن يدخل بيتي مستجيرًا بي والله لأعمالنه بضد ما عاملني به هو وأبوه فكان كذلك‏.‏

وأما أبو تغلب بن حمدان فإنه أجاب إلى المسارعة وأنفذ أخاه أبا عبدالله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان إلى تكريت في عسكر وانتظر انحدار الأتراك عن بغداد فإن ظفروا ببختيار دخل بغداد مالكًا لها فلما انحدر الأتراك عن بغداد سار أبو تغلب إليها ليوجب على بختيار الحجة في إسقاط المال الذي عليه ووصل إلى بغداد والناس في بلاء عظيم مع العيارين فحمى البلد وكف أهل الفساد‏.‏

وأما الأتراك فإنهم انحدروا مع سبكتكين إلى واسط وأخذوا معهم الخليفة الطائع لله والمطيع أيضًا وهو مخلوع فلما وصلوا إلى دير العاقول توفي بها المطيع ومرض سبكتكين فمات بها أيضًا فحملا إلى بغداد وقدم الأتراك عليهم الفتكين وهو من أكابر قوادهم وموالي معز الدولة وفرح بختيار بموت سبكتكين وظن أن أمر الأتراك ينحل وينتشر بموته فلما رأى انتظام أمورهم ساءه ذلك‏.‏

ثم إن الأتراك ساروا إليه وهو بواسط فنزلوا قريبًا منه وصاروا يقاتلونه نوائب نحو خمسين يومًا ولم تزل الحرب بين الأتراك وبختيار متصلة والظفر للأتراك في كل ذلك وحصروا بختيار واشتد عليه الحصار وأحدقوا به وصار خائفًا يترقب وتابع إنفاذ الرسل إلى عضد الدولة بالحث والإسراع وكتب إليه‏:‏ فإن كنت مأكولًا فكن أنت آكلي وإلاّ فأدركني ولّما أمزّق فلما رأى عضد الدولة ذلك وأن الأمر قد بلغ ببختيار ما كان يرجوه سار نحو العراق نجدة

  ذكر ملك عضد الدولة عمان

في هذه السنة استولى الوزير أبو القاسم المطهر بن محمد وزير عضد الدولة على جبال عمان ومن بها من الشراة في ربيع الأول‏.‏

وسبب ذلك أن معز الدولة لما توفي وبعمان أبو الفرج بن العباس نائب معز الدولة فارقها فتولى أمرها عمر بن نهبان الطائي وأقام الدعوة لعضد الدولة ثم إن الزنج غلبت على البلد ومعهم طوائف من الجند وقتلوا ابن نهبان وأمروا عليهم إنسانًا يعرف بابن حلاج فسير عضد الدولة جيشًا من كرمان واستعمل عليهم أبا حرب طغان فساروا في البحر إلى عمان فخرج أبو حرب من المراكب إلى البر وسارت المراكب في البحر من ذلك المكان فتوافوا على صحار قصبة عمان فخرج إليهم الجند والزنج واقتتلوا قتالًا شديدًا في البر والبحر فظفر أبو حرب واستولى على صحار وانهزم أهلها وكان ذلك سنة اثنتين وستين‏.‏

ثم إن الزنج اجتمعوا إلى بريم وهو رستاق بينه وبين صحار مرحلتان فسار إليهم أبو حرب فأوقع بهم وقعة أتت عليهم قتلًا وأسرًا فاطمأنت البلاد‏.‏

ثم إن جبال عمان اجتمع بها خلق كثير من الشراة وجعلوا لهم أميرًا اسمه ورد بن زياد وجعلوا لهم خليفة اسمه حفص بن راشد فاشتدت شوكتهم فسير عضد الدولة المطهر بن عبدالله في البحر أيضًا فبلغ إلى نواحي حرفان من أعمال عمان فأوقع بأهلها وأثخن فيهم وأسر ثم سار إلى دما وهي على أربعة أيام من صحار فقاتل من بها وأوقع بهم وقعة عظيمة قتل فيها وأسر كثيرًا من رؤسائهم وانهزم أميرهم ورد وإمامهم حفص واتبعهم المطهر إلى نزوى وهي قصبة تلك الجبال فانهزموا منه فسير إليهم العساكر فأوقعوا بهم وقعة أتت على باقيهم وقتل ورد وانهزم حفص إلى اليمن فصار معلمًا وسار المطهر إلى مكان يعرف بالشرف به جمع كثير من العرب نحو عشرة آلاف فأوقع بهم واستقامت البلاد ودانت بالطاعة ولم يبق فيها مخالف‏.‏

  ذكر عدة حوادث

وفيها خطب للمعز لدين الله العلوي صاحب مصر بمكة والمدينة في الموسم‏.‏

وفيها خرج بنو هلال وجمع من العرب على الحاج فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وضاق الوقت فبطل الحج ولم يسلم إلا من مضى مع الشريف أبي أحمد الموسوي والد الرضي على طريق المدينة فتم حجهم‏.‏

وفيها توفي عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد الفقيه الحنبلي المعروف بغلام الخلال وعمره ثمان وسبعون سنة‏.‏

وإلى آخر هذه السنة انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة وأوله من خلافة المقتدر بالله سنة خمس وتسعين ومائتين‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة

  ذكر استيلاء عضد الدولة على العراق وقبض بختيار

في هذه السنة وصل عضد الدولة واستولى على العراق وقبض بختيار ثم عاد فأخرجه‏.‏

وسبب ذلك أن بختيار لما تابع كتبه إلى عضد الدولة يستنجده ويستعين به على الأتراك سار إليه في عساكر فارس واجتمع به أبو الفتح بن العميد وزير أبيه ركن الدولة في عساكر الري بالأهواز وساروا إلى واسط‏.‏

فلما سمع الفتكين بخبر وصولهم رجع إلى بغداد وعزم على أن يجعلها وراء ظهره ويقاتل على ديالى‏.‏

ووصل عضد الدولة فاجتمع به بختيار وسار عضد الدولة إلى بغداد في الجانب الشرقي ولما بلغ الخبر إلى أبي تغلب بقرب الفتكين منه عاد عن بغداد إلى الموصل لأن أصحابه شغبوا عليه فلم يمكنه المقام ووصل الفتكين إلى بغداد فحصل محصورًا من جميع جهاته وذلك أن بختيار كتب إلى ضبة بن محمد الأسدي وهو من أهل عين التمر وهو الذي هجاه المتنبي فأمره بالإغارة على أطراف بغداد وبقطع الميرة عنها وكتب بمثل ذلك إلى بني شيبان‏.‏

وكان أبو تغلب بن حمدان من ناحية الموصل يمنع الميرة وينفذ سراياه فغلا السعر ببغداد وثار العيارون والمفسدون فنهبوا الناس ببغداد وامتنع الناس من المعاش لخوف الفتنة وعدم الطعام والقوت بها وكبس الفتكين المنازل في طلب الطعام‏.‏

وسار عضد الدولة نحو بغداد فلقيه الفتكين والأتراك بين ديالى والمدائن فاقتتلوا قتالًا شديدًا وانهزم الأتراك فقتل منهم خلق كثير ووصلوا إلى ديالى فعبروا على جسور كانوا عملوها عليه فغرق منهم أكثرهم من الزحمة وكذلك قتل وغرق من العيارين الذين أعانوهم من بغداد واستباحوا عسكرهم وكانت الوقعة رابع عشر جمادى الأولى‏.‏

وسار الأتراك إلى تكريت وسار عضد الدولة فنزل بظاهر بغداد فلما علم وصول الأتراك إلى تكريت دخل بغداد ونزل بدار المملكة وكان الأتراك قد أخذوا الخليفة معهم كارهًا فسعى عضد الدولة حتى رده إلى بغداد فوصلها ثامن رجب في الماء وخرج عضد الدولة فلقيه في الماء أيضًا وامتلأت دجلة بالسيمريات والزبازب ولم يبق ببغداد أحد ولو أراد إنسان أن يعبر دجلة على السميريات من واحدة إلى أخرى لأمكنه ذلك لكثرتها وسار عضد الدولة مع الخليفة وأنزله بدار الخلافة‏.‏

وكان عضد الدولة قد طمع في العراق واستضعف بختيار وإنما خاف أباه ركن الدولة فوضع جند بختيار على أن يثوروا به ويشغبوا عليه ويطالبوه بأموالهم والإحسان لأجل صبرهم مقابل الأتراك ففعلوا ذلك وبالغوا‏.‏

وكان بختيار لا يملك قليلًا ولا كثيرًا وقد نهب البعض وأخرج هو الباقي والبلاد خراب فلا تصل يده إلى أخذ شيء منها‏.‏

وأشار عضد الدولة على بختيار بترك الالتفات إليهم والغلظة لهم وعيهم وأن لا يعدهم بما لا يقدر عليه وأن يعرفهم أنه لا يريد الإمارة والرئاسة عليهم ووعده أنه إذا فعل ذلك توسط الحال بينهم على ما يريده‏.‏

فظن بختيار أنه ناصح له مشفق عليه ففعل ذلك واستعفى من الإمارة وأغلق باب داره وصرف كتابه وحجابه فراسله عضد الدولة ظاهرًا بمحضر من مقدمي الجند يشير عليه بمقاربتهم وتطييب قلوبهم وكان أوصاه سرًا أن لا يقبل منه ذلك‏.‏

فعمل بختيار بما أوصاه وقال‏:‏ لست أميرًا لهم ولا بيني وبينهم معاملة وقد برئت منهم‏.‏

فترددت الرسل بينهم ثلاثة أيام وعضد الدولة يغريهم به والشغب يزيد وأرسل بختيار إليه يطلب نجاز ما وعده به ففرق الجند على عدة جميلة واستدعى بختيار وإخوته إليه فقبض عليهم ووكل بهم وجمع الناس وأعلمهم استعفاء بختيار عن الإمارة عجزًا عنها ووعدهم الإحسان والنظر في أمورهم فسكنوا إلى قوله‏.‏

وكان قبضه على بختيار في السادس والعشرين من جمادى الآخرة‏.‏

وكان الخليفة الطائع لله نافرًا عن بختيار لأنه كان مع الأتراك في حروبهم فلما بلغه قبضه سره ذلك وعاد إلى عضد الدولة فأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان قد نسي وترك وأمر بعمارة الدار والإكثار من الآلات وعمارة ما يتعلق بالخليفة وحماية إقطاعه ولما دخل الخليفة إلى بغداد ودخل دار الخلافة أنفذ إليه عضد الدولة مالًا كثيرًا وغيره من الأمتعة والفرش وغير ذلك‏.‏

  ذكر عود بختيار إلى ملكه

لما قبض بختيار كان ولده المرزبان بالبصرة متوليًا لها فلما بلغه قبض والده امتنع فيها على عضد الدولة وكتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على والده وعميه من عضد الدولة ومن أبي الفتح بن العميد ويذكر له الحيلة التي تمت عليه فلما سمع ركن الدولة ذلك ألقى نفسه عن سريره إلى الأرض وتمرغ عليها وامتنع من الأكل والشرب عدة أيام ومرض مرضًا لم يستقل منه وكان محمد بن بقية بعد بختيار قد خدم عضد الدولة وضمن منه مدينة واسط وأعمالها فلما صار إليها خلع طاعة عضد الدولة وخالف عليه وأظهر الامتعاض لقبض بختيار وكاتب عمران بن شاهين وطلب مساعدته وحذره مكر عضد الدولة فأجابه عمران إلى ما التمس‏.‏

وكان عضد الدولة قد ضمن سهل بن بشر وزير الفتكين بلد الأهواز وأخرجه من حبس بختيار فكاتبه محمد بن بقية واستماله فأجابه فلما عصى ابن بقية أنفذ إليه عضد الدولة جيشًا قويًا فخرج إليهم ابن بقية في الماء ومعه عسكر قد سيره إليه عمران فانهزم أصحاب عضد الدولة أقبح هزيمة وكاتب ركن الدولة بحاله وحال بختيار فكتب ركن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممن احتمى لبختيار يأمرهم بالثبات والصبر ويعرفهم أنه على المسير إلى العراق لإخراج عضد الدولة وإعادة بختيار‏.‏

فاضطربت النواحي على عضد الدولة وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه وانقطعت عنه مواد فارس والبحر ولم يبق بيده إلا قصبة بغداد وطمع فيه العامة وأشرف على ما يكره فرأى إنفاذ أبي الفتح بن العميد برسالة إلى أبيه يعرفه ما جرى له وما فرق من الأموال وضعف بختيار عن حفظ البلاد وإن أعيد إلى حاله خرجت المملكة والخلافة عنهم وكان بوارهم ويسأله ترك نصرة بختيار‏.‏

وقال لأبي الفتح‏:‏ فإن أجاب إلى ما تريد منه وإلا فقل له‏:‏ إنني أضمن منك أعمال العراق وأحمل إليك منها كل سنة ثلاثين ألف ألف درهم وأبعث بختيار وأخويه إليك لتجعلهم بالخيار فإن اختاروا أقاموا عندك وإن اختاروا بعض بلاد فارس سلمته إليهم ووسعت عليهم وإن أحببت أنت أن تحضر في العراق لتلي تدبير الخلافة وتنفذ بختيار إلى الري وأعود أنا إلى فارس فالأمر إليك‏.‏

وقال لابن العميد‏:‏ فإن أجاب إلى ما ذكرت له وإلا فقل له‏:‏ أيها السيد الوالد أنت مقبول الحكم والقول ولكن لا سبيل إلى إطلاق هؤلاء القوم بعد مكاشفتهم وإظهار العداوة وسيقاتلونني بغاية ما يقدرون عليه فتنتشر الكلمة ويختلف أهل هذا البيت أبدًا فإن قبلت ما ذكرته فأنا العبد الطائع وإن أبيت وحكمت بانصرافي فإني سأقتل بختيار وأخويه وأقبض على كل من أتهمه بالميل إليهم وأخرج عن العراق وأترك البلاد سائبة ليدبرها من اتفقت له‏.‏

فخاف ابن العميد أن يسير بهذه الرسالة وأشار أن يسير بها غيره ويسير هو بعد ذلك ويكون كالمشير على ركن الدولة بإجابته إلى ما طلب فأرسل عضد الدولة رسولًا بهذه الرسالة وسير بعده ابن العميد على الجمازات فلما حضر الرسول عند ركن الدولة وذكر بعض الرسالة وثب إليه ليقتله فهرب من بين يديه ثم رده بعد أن سكن غضبه وقال‏:‏ قل لفلان يعني عضد الدولة وسماه بغير اسمه وشتمه خرجت إلى نصرة ابن أخي وللطمع في مملكته أما عرفت أني نصرت الحسن بن الفيرزان وهو غريب مني مرارًا كثيرة أخاطر فيها بملكي ونفسي فإذا ظفرت أعدت له بلاده ولم أقبل منه ما قيمته درهم واحد‏.‏

ثم نصرت إبراهيم بن المرزبان وأعدته إلى أذربيجان وأنفذت وزيري وعساكري في نصرته ولم آخذ منه درهمًا واحدًا كل ذلك طلبًا لحسن الذكر ومحافظة على الفتوة تريد أن تمن أنت علي بدرهمين أنفقتهما أنت علي وعلى أولاد أخي ثم تطمع في ممالكهم وتهددني بقتلهم‏!‏ فعاد الرسول ووصل ابن العميد فحجبه عنه ولم يسمع حديثه وتهدده بالهلاك وأنفذ إليه يقول له‏:‏ لأتركنك وذلك الفاعل يعني عضد الدولة تجتهدان جهدكما ثم لا أخرج إليكما إلا في ثلاثمائة جمازة وعليها الرجال ثم اثبتوا إن شئتم فوالله لا قاتلتكما إلا بأقرب الناس إليكما‏.‏

وكان ركن الدولة يقول‏:‏ إنني أرى أخي معز الدولة كل ليلة في المنام يعض على أنامله ويقول‏:‏ يا أخي هكذا ضمنت لي أن تخلفني في ولدي‏.‏

وكان ركن الدولة يحب أخاه محبة شديدة لأنه رباه فكان عنده بمنزلة الولد‏.‏

ثم إن الناس سعوا لابن العميد وتوسطوا الحال بينه وبين ركن الدولة وقالوا‏:‏ إنما تحمل ابن العميد هذه الرسالة ليجعلها طريقًا للخلاص من عضد الدولة والوصول إليك لتأمر بما تراه‏.‏

فأذن له في الحضور عنده فاجتمع به وضمن له إعادة عضد الدولة إلى فارس وتقرير بختيار فلما رأى عضد الدولة انحراف الأمور عليه من كل ناحية أجاب إلى المسير إلى فارس وإعادة بختيار فأخرجه من محبسه وخلع عليه وشرط عليه أن يكون نائبًا عنه بالعراق ويخطب له ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لضعف بختيار ورد عليهم عضد الدولة جميع ما كان لهم وسار إلى فارس في شوال من هذه السنة وأمر أبا الفتح بن العميد وزير أبيه أن يلحقه بعد ثلاثة أيام‏.‏

فلما سار عضد الدولة أقام ابن العميد عند بختيار متشاغلًا باللذات وبما هو بختيار مغرى به من اللعب واتفقا باطنًا على أنه إذا مات ركن الدولة سار إليه ووزر له‏.‏

واتصل ذلك بعضد الدولة فكان سبب هلاك ابن العميد على ما نذكره‏.‏

واستقر بختيار ببغداد ولم يقف لعضد الدولة على العهود‏.‏

فلما ثبت أمر بختيار أنفذ ابن بقية من خلفه له وحضر عنده وأكد الوحشة بين بختيار وعضد الدولة وثارت الفتنة بعد مسير عضد الدولة واستمال ابن بقية الأجناد وجبى كثيرًا من الأموال إلى خزانته وكان إذا طالبه بختيار بالمال وضع الجند على مطالبته فثقل على بختيار فاستشار في مكروه يوقعه به فبلغ ذلك ابن بقية فعاتب بختيار عليه فأنكره وحلف له فاحترز ابن بقية منه‏.‏

في هذه السنة خالف أهل كرمان على عضد الدولة‏.‏

وسبب ذلك أن رجلًا من الجرومية وهي البلاد الحارة يقال له طاهر ابن الصمة ضمن من عضد الدولة ضمانات فاجتمع عليه أموال كثيرة فطمع فيها وكان عضد الدولة قد سار إلى العراق وسير وزيره المطهر بن عبدالله إلى عمان ليستولي عليها فخلت كرمان من العساكر فجمع طاهر الرجال الجرومية وغيرهم فاجتمع له خلق كثير‏.‏

واتفق أن بعض الأتراك السامانية اسمه يوزتمر كان قد استوحش من أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور صاحب جيش خراسان للسامانية فكاتبه طاهر وأطعمه في أعمال كرمان فسار إليه واتفقا وكان يوزتمر هو الأمير فاتفق أن الرجال الجرومية شغبوا على يوزتمر فظن أن طاهرًا وضعهم فاختلفا واقتتلا فظفر يوزتمر بطاهر وأسره وظفر بأصحابه‏.‏

وبلغ الخبر إلى الحسين بن أبي علي بن إلياس وهو بخراسان فطمع في البلاد فجمع جمعًا وسار إليها فاجتمع عليه بها جموع كثيرة‏.‏

ثم إن المطهر بن عبدالله استولى على عمان وجبالها وأوقع بالشراة فيها وعاد فوصله كتاب عضد الدولة من بغداد يأمره بالمسير إلى كرمان فسار إليها مجدًا وأوقع في طريقه بأهل العيث والفساد وقتلهم وصلبهم ومثل بهم ووصل إلى يوزتمر على حين غفلة منه فاقتتلوا بنواحي مدينة بم فانهزم يوزتمر ودخل المدينة وحصره المطهر في حصن في وسط المدينة فطلب الأمان فأمنه فخرج إليه ومعه طاهر فأمر المطهر بطاهر فشهر ثم ضرب عنقه‏.‏

وأما يوزتمر فإنه رفعه إلى بعض القلاع فكان آخر العهد به وسار المطهر إلى الحسين بن إلياس فرأى كثرة من معه فخاف جانبهم ولم يجد من اللقاء بدًا فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم الحسين على باب جيرفت وانهزم عسكره فمنعهم سور المدينة من الهرب فكثر فيهم القتل وأخذ الحسين أسيرًا وأحضر عند المطهر فلم يعرف له بعد خبر وصلحت كرمان لعضد الدولة‏.‏